----- Original Message -----
Sent: Thursday, May 30, 2002 3:23 PM
Subject: مولد الهدى : دروس من السيرة ( 5 )
الكعبة
المشرفة
الكعبة أول بيت بني على اسم الله و
لعبادة الله و توحيده فيه . و قد تعرضت الكعبة للعوادي التي أوهت بنيانها و صدعت
جدرانها ، و كان من بين هذه العوادي سيل عرِم جَرَف مكة قبل البعثة المحمدية بسنوات
قليلة ، فلم تجد قريش بُداً من إعادة تشييد الكعبة حرصاً على ما لهذا البناء من
حرمة و قداسة خالدة .
و لقد شارك الرسول قبل البعثة في
بناء الكعبة و إعادة تشييدها مشاركة فعالة ، فقد كان ينقل الحجارة على كتفه . و لقد
كان له أثر كبير في حل المشكلة التي تسببت عن خلاف القبائل حول من يستحق أن ينال
شرف وضع الحجر الأسود في مكانه ، فقد خضعوا جميعهم لاقتراحه الذي أبداه حلاً
للمشكلة ، علماً منهم بأنه الأمين و المحبوب من الجميع .
أهمية الكعبة و مكانتها
الكعبة رمز لوحدانية الله : لمَّا بعث الله إبراهيم عليه السلام
بتكسير الأصنام و الطواغيت و هدم بيوتها و القضاء على معالمها و نسخ عبادتها ،
اقتضت حكمته جل جلاله أن يشيَّد فوق الأرض بناء يكون شعاراً لتوحيد الله و عبادته
وحده ، و يظل مع الدهر تعبيراً للعالم عن المعنى الصحيح للدين و العبادة و عن بطلان
الشرك و عبادة الأصنام .
لقد قضت البشرية ردحاً من الزمن تدين
بالعبادة للحجارة و الأصنام و الطواغيت و تنشئ لها المعابد ، و لقد آن لها أن تدرك
بطلان كل ذلك و زيفه ، و آن لها أن تستعيض عن تلك المعابد هذا الرمز الجديد . . هذا
البيت الذي أقيم لعبادة الله وحده ، يدخله الإنسان ليقف عزيزاً لا يخضع و لا يذل
إلا لخالق الكون كله .
غير أن هذا لا يعني أو يستلزم أن
يكون للكعبة تأثير على الطائفين حولها أو العاكفين فيها ، فهي ـ على ما لها من
قداسة و وجاهة عظيمة عند الله ـ حجارة لا تضر و لا تنفع .
الكعبة رمز لوحدة المسلمين : إذا كان لابد للمؤمنين بوحدانية
الله و الداخلين في دينه من رابطة يتعارفون بها ، و مثابة يؤوبون ( يرجعون
) إليها ، مهما تفرقت بلدانهم و تباعدت ديارهم و اختلفت أجناسهم و لغاتهم ،
إذا كان لابد من ذلك فليس أجدر من هذا البيت الذي أقيم رمزاً لتوحيد الله ، و رداً
على باطل الشرك و الأصنام ، أن يكون هو الرابطة و هو المثابة ( المرجع ) لهم جميعاً
، يتعارفون في حماه ، و يلتقون على الحق .
فهذا البيت هو الشعار
الذي يجسد وحدة المسلمين في أقطار الأرض ، و يعبر عن وحدانية الله و العبادة له
وحده ، مهما أقيم من آلهة زائفة و متألهين باطلين على مر الأزمنة و العصور
أهم
ما تعاقب على الكعبة من الهدم و البناء
بُنِيَت الكعبة خلال الدهر كله أربع
مرات بيقين لا خلاف فيها ، و وقع الخلاف فيما قبل هذه المرات الأربع و ما بعدها
:
المرة الثانية : هي تلك التي بنتها قريش قبل الإسلام ، و اشترك في
بنائها النبي صلى الله عليه و سلم كما ذكرنا .
المرة الثالثة : كانت في عهد الخليفة الأموي "يزيد بن معاوية" ،
إذ كانت الخلاف و القتال دائراً بينه و بين "عبد الله بن الزبير بن العوَّام" حول
أحقية الخلافة .
و خلاصة ذلك
: أنهم حاصروا عبد الله بن الزبير بمكة بأمر من يزيد ، و رموا البيت
بالمنجنيق ، فتهدم و احترق ، فانتظر عبد الله حتى قدم الناس في موسم الحج فاستشارهم
قائلاً : أيها الناس ، أشيروا عليّ في بناء الكعبة ، أنقضها ثم
أبني بناءها ، أم أصلح ما وَهَى منها ؟
فقال له ابن عباس : أرى أن تصلح ما وَهَى منها و تدع البيت و الأحجار التي أسلم الناس
عليها .
فقال عبد الله بن الزبير : لو كان أحدكم احترق بيته ما رضِيَ حتى يُجِدَّه ( يبنيه من جديد ) ،
فكيف ببيت ربكم ؟! إني مستخير ربي ثلاثاً ( أي ثلاثة أيام ) ، ثم عازم على أمري
. ثم باشر الهدم و البناء بعد ثلاثة أيام
.
المرة الرابعة : في عهد الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان" ،
بعد مقتل عبد الله بن الزبير ، إذ وقع الخلاف حول البناء الذي بناه عبد الله
بن الزبير ؛ إذ كان قد غير في البناء الأول ، فأمر عبد الملك بإعادة البناء كما كان
عليه قبل بناء ابن الزبير .
و قد قيل أن الخليفة الأموي "هارون
الرشيد" كان قد عزم على أن يعيد بناءها كما بناها عبد الله بن الزبير ، فقال له
مالك بن أنس رحمه الله : أَنْشُدُكَ الله يا أمير المؤمنين أن
لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك ، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ، فتذهب
هيبته من قلوب الناس . فصرفه عن رأيه .
أما المرة الخامسة التي وقع فيها الخلاف : فهي ما كان قبل بناء
إبراهيم عليه السلام ، قيل أول من بنى البيت آدم عليه السلام ، و قيل بل أول من
وضعه للناس هم الملائكة .
حكمة
النبي و مكانته بين قومه
يتبين من موقف بناء قريش للكعبة مدى
حكمة النبي صلى الله عليه و سلم في تدبير الأمور و قطع دابر الخصومات ، وبين من ؟
بين أقوام قلما قامت بينهم خصومة ثم نامت قبل أن تراق فيما بينهم
بسببها الدماء . و قد وصل بينهم الخلاف كما رأينا إلى درجة كاد أن ينشب فيما
بينهم القتال ، فقد أحضرت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم و بنو عديّ
على الموت ، و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم ( تأكيداً للعهد ) ، و مكثت قريش على ذلك
أربع ليالٍ أو خمساً دون أن يردها إلى الوفاق رأي أو تدبير ، حتى كان خمود نار
الفتنة على يد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و نحن ينبغي أن نُرجع هذه الميزة فيه
عليه الصلاة و السلام إلى ما اختاره الله له من القيام بعبء الرسالة و النبوة ، قبل
أن نُرجعها إلى العبقرية التي جُبِل عليها و الذكاء الذي فُطِر عليه . فالأساس
الأول في تكوينه عليه الصلاة والسلام أنه رسول و نبي ، ثم تأتي المزايا الأخرى كلها
من عبقرية و ذكاء و دهاء مبنية على هذا الأساس و لاحقة به .
يتبين لنا من هذا الموقف أيضاً مدى
سمو منزلته عليه الصلاة و السلام بين رجال قريش على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم ، فقد
كان ملقباً عندهم بالأمين ، و كان محبوباً منهم جميعهم ، لا يرتابون في صدقه إذا
حدثوه ، و في كريم أخلاقه إذا عاملوه ، و في عظيم إخلاصه إذا استعانوا به و اعتمدوا
عليه ، فما أن رأوه يدخل المسجد الحرام حتى قالوا :
" هذا الأمين رضينا
به .. هذا مُحمَّد "