----- Original Message -----
Sent: Thursday, June 06, 2002 3:18 PM
Subject: مولد الهدى : دروس من السيرة ( 10 )
هذه
سبيلنا .. سبيل الدعاة
كانت المفاوضات جارية بين
قريش و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم ، محاولة منهم لرده عن دعوته ،
فقد قالوا له : إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى
تكون أكثرنا مالاً ، و إن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا ( أي جعلناك سيِّداً
علينا ) حتى لا نقطع أمراً دونك ، و إن كنت تريد به مُلكاً ملكناك علينا ، .... ، و
لكنه عليه الصلاة و السلام لم يَلِن و لم يستجب لأيٍ من عروضهم ، فقد كان صاحب دعوة
لم يفهموا هم حقيقتها ... دعوة لا تلتبس بها الأهواء و الأغراض التي قد يضمرها في
أنفسهم عادةً أرباب الدعوات الجديدة و المنادون بالثورة والإصلاح .
هل النبي صلى الله
عليه و سلم كان يضمر من وراء دعوته الوصول إلى الملك ؟
أو لعله يضمر الوصول
إلى مستوى رفيع من الزعامة أو الغنى ؟
كل هذه الاحتمالات وسائل يتذرع بها
محترفو الغزو الفكري و أعداء هذا الدين .. و لكن يا لأسرار الحياة العظيمة التي
هيأها رب العالمين لرسوله ! .. لقد ملأ الله عز و جل حياة رسوله بالمواقف و المشاهد
التي تقطع دابر كل احتمال ، و تقطع السبيل إلى كل وسواس ، و تدع أرباب الغزو الفكري
حيارى في الطريقة التي ينبغي لهم أن يسلكوها في حربهم الفكرية .
لقد فكر أمثال "كريمر" و "فان فلوتن"
طويلاً .. ثم لم يجدوا من سبيل لأداء مهمة التشكيك والغزو إلا أن يغمضوا أعينهم عن
الحقيقة و يزعموا أن دوافع محمد عليه الصلاة و السلام في دعوته إنما كانت الرغبة في
السيادة و الملك، و إن صدموا رؤوسهم في هذا الزعم بصخور عاتية تقذفهم و تردهم
أشواطاً إلى الوراء .
لقد سخر الله من قبلهم رجال قريش
لحمل هذه الدوافع و الآمال و وضعها بين يدي محمد عليه الصلاة و السلام .. فلماذا لم
يَلِن الرسول لهم و لم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت له إذا كانت هي دافعه من
وراء رسالته ؟ و هل طالب الملك و الزعامة يقول لهم : " ما جئت
بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا الشرف فيكم و لا الملك عليكم ، و لكن الله بعثني
إليكم رسولاً ، و أنزل عليَّ كتاباً ، و أمرني أن أكون لكم بشيراً و نذيراً .. فإن
تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة ، و إن تردُّوه عليَّ أصبر
لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم " .
ثم إن معيشته الحياتية كانت مطابقة
لكلامه هذا ، كان بسيطاً في مأكله و مشربه .. لا يزيد عما عليه حالة الفقراء
والمساكين ، و كان بسيطاً للغاية في ملبسه و أثاث بيته . فكيف
يشك العقل بعد هذا كله في صدق نبوته ، و كيف يصح أن يتوهم الفكر و الخيال أنه قد
يكون مدفوعاً برغبة الزعامة أو الطمع في الغنى ؟؟!
الغاية
لا تبرر الوسيلة
إن الشريعة الإسلامية تعبدتنا
بالوسائل كما تعبدتنا بالغايات : ليس لك أن تسلك إلى
الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريق التي جعلها الله وسيلة إليها
..
كان من المتصوَّر ـ من باب الحكمة و
السياسة ـ أن يرضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالزعامة أو الملك ، على أن ينوي
في نفسه اتخاذ الملك و الزعامة وسيلة بعد ذلك إلى تحقيق دعوة الإسلام .. و لكن
النبي لم يرضَ سلوك هذه السياسة ؛ لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها .
فلو جاز أن يكون مثل هذا الأسلوب
نوعاً من أنواع الحكمة و السياسة الرشيدة لانمحى الفرق بين الصادق الصريح في صدقه ،
و الكاذب الذي يخادع في كذبه ، و لتلاقى الصادقون مع الدجالين و المشعوذين على طريق
واحدة اسمها : "الحكمة و السياسة" ..
إن فلسفة هذا الدين تقوم على عماد
الشرف و الصدق في الوسيلة و الغاية ، فكما أن الغاية قوامها الصدق و الشرف و كلمة الحق ، فكذلك الوسيلة لا ينبغي أن تكون
إلا بالصدق و الشرف و كلمة الحق .
من هنا
.. فإن أرباب الدعوة الإسلامية يحتاجون في معظم حالاتهم إلى التضحية و
الفداء .. فسبيلنا التي نسلكها لا تسمح لنا بالتعرج كثيراً ذات اليمين و ذات الشمال
..
ادع إلى سبيل
ربك بالحكمة .. و لكن من الخطأ أن تحسب أن مبدأ الحكمة في الدعوة إنما شُرِع
من أجل التسهيل وتفادي المآسي و الأتعاب .. بل السر في مشروعية الحكمة في الدعوة
إنما هو سلوك أقرب الوسائل إلى عقول الناس . و معنى هذا أنه إذا قامت العثرات و
الصد و العناد فإن الحكمة حينئذ إنما هي إعداد العدة للجهاد و التضحية بالنفس و
المال .. إن الحكمة إنما هي أن تضع الشئ في مكانه
.
و الخلاصة
: ليس لأحد من الناس أن يغير شيئاً من أحكام الإسلام و مبادئه أو يتجاوز
شيئاً من حدوده أو يستهين بها تحت شعار الحكمة و النصيحة في الدعوة ؛ لأن الحكمة لا
تكون حكمة إلا إذا كانت مقيدة و منضبطة ضمن حدود الشريعة و مبادئها و أخلاقها
.