----- Original Message -----
Sent: Sunday, June 09, 2002 2:09 PM
Subject: مولد الهدى : دروس من السيرة ( 13 )
الابتلاء طريق
الأنبياء
إذا تأملنا في رحلة الطائف
التي قام بها النبي صلى الله عليه و سلم و ما انطوت عليه من العذاب الواصب ، أدركنا
أن ما يلاقيه النبي من مختلف ألوان المحن إنما كان من جملة أعماله التبليغية ..
فكما كان يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون و خالقه ، و أحكام العبادات و الأخلاق و
المعاملات ، كذلك جاء يبلغ المسلمين ما كلفهم الله به من واجب الصبر . فكما كان
يقول "صلوا كما رأيتموني أصلي" ، و قال "خذوا عني مناسككم" ، فقد قاسى أمر أنواع
المحن في سبيل الدعوة ليقول بلسان حاله للدعاة من بعده "اصبروا كما رأيتموني أصبر"
...
ربما يقول قائل : فما معنى ارتفاع صوته بالشكوى إذن ، و ما معنى دعائه (اللهم إليك
أشكو ضعف قوتي .... ) الذي تدل ألفاظه و صيغته على الضجر و الملل من طول المحاولة
التي لم تأتِ بنتيجة إلا الأذى و العذاب ؟
و الجواب : أن الشكوى
إلى الله تعبُّد ، و الضراعة له و التذلل على بابه تقرُّب و طاعة . و للمحن و
المصائب حِكَم ، من أهمها أنها تسوق صاحبها إلى باب الله تعالى و تُلبسُه جلباب
العبودية له ، فليس بين الصبر على المكاره و الشكوى إلى الله تعالى أي تعارض .. بل
الواقع أن رسول الله كان يعلمنا في حياته كلا الأمرين ، فكان بصبره الشديد يعلمنا
أن هذه هي وظيفة المسلمين عامة و الدعاة إلى الله خاصة ، و كان بطول ضراعته و
التجائه إلى الله تعالى يعلمنا وظيفة العبودية و مقتضياتها .
فِدَاكَ
أبي و أمى
فيما كان يفعله زيد بن حارثة رضي
الله عنه في رحلة الطائف من وقاية للرسول بنفسه من حجارة السفهاء ، حتى إنه شُجَّ
في رأسه عدة شجاج ، نموذج لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم بالنسبة لقائد الدعوة
من حمايته له بنفسه و دفاعه عنه ، و إن اقتضى ذلك التضحية بحياته .
هكذا كانت حال الصحابة رضي الله عنهم
بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم . و لئن كان رسول الله غير موجود اليوم
بيننا فلا يمكننا الدفاع عنه على النحو الذي كان يفعله الصحابة ، فإن ذلك يتحقق على
نحو آخر هو أن لا نضن على أنفسنا بالمحن و العذاب في سبيل الدعوة الإسلامية ، و أن
نسهم بشئ من تحمل الجهد و المشاق التي تحملها النبي صلى الله عليه و سلم
.
الجن
في طريق عودته صلى الله عليه و سلم
من الطائف إلى مكة ، قام يصلي في جوف الليل في "نخلة" ، و هناك استمع لقراءته نفر
من الجن . في ذلك دليل على وجود الجن ، و على أنهم مكلفون ، و أن منهم من آمن بالله
ورسوله و منهم من كفر و لم يؤمن ... يتأكد ذلك بحديث القرآن عنهم في نصوص قاطعة
صريحة ، على نحو ما جاء في سورة "الجن" ، و سورة "الرحمن" ، و قوله تعالى في سورة
الأحقاف : (( و إذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن
..... )) .
فعلى المسلم أن يؤمن بوجود الجن و
بأنهم كائنات حية كلفها الله عز و جل بعبادته كما كلفنا بذلك ، و لئن كانت حواسنا و
مداركنا لا تشعر بهم فذلك لأن الله عز و جل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية
التي بثها في أعيننا ، و معلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعاً معينة من الموجودات
بقدر معين و بشروط معينة .
و لمَّا كان وجود هذه الخليقة ثابتاً
بأخبار يقينية وردت إلينا من الكتاب و السنة ، و كان أمرهم معلوماً من الدين
بالضرورة .. فقد أجمع المسلمون على أن إنكار الجن أو الشك في
وجودهم يستلزم الردة و الخروج عن الإسلام ؛ إذ أن إنكارهم إنكار لشئ معلوم
من الدين بالضرورة ، و هو تكذيب الخبر الصادق الوارد إلينا عن الله عز و جل و عن
رسوله .
و لا ينبغي ان يقع العاقل في الغفلة
و الجهل فيزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع العلم ، فيقول أنه لا يؤمن بوجود الجن
من أجل أنه لم يرَ الجن و لم يحس بهم .. إن ذلك يستدعي إنكار الكثير من الموجودات
اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها . و القاعدة العلمية المشهورة تقول : عدم الوجدان لا يستدعي عم الوجود ؛ أي عدم رؤيتك لشئ تفتش عنه
لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقوداً أو غير موجود .
الرحمة
المهداة
عندما لقي رسول الله صلى الله عليه و
سلم ما لقي من أهل الطائف ، و انصرف إلى مكة محزوناً ، أرسل ربه تبارك وتعالى إليه مَلَك الجبال يستأمره أن يطبق
الأخشبين على أهل مكة
- وهما جبلاها اللذان
هي بينهما - فقال : بل أستأني ( أتمهل )
بهم ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك
به شيئا .
كان صلى الله عليه و سلم
متصفاً الشفقة و الرأفة و الرحمة لجميع الخلق فقد قال الله تعالى فيه : (( عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم )) . و قال تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين )). قال بعض أهل العلم : من فضله عليه السلام أن الله تعالى أعطاه
اسمين من أسمائه ، فقال : بالمؤمنين رؤوف رحيم .
و من شفقته على أمته عليه السلام
تخفيفه و تسهيله عليهم ، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم ، كقوله : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء
.
و روي أن جبريل عليه السلام قال
للنبي صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى أمر السماء و الأرض
و الجبال أن تطيعك . فقال : أؤخر عن أمتي لعل الله أن
يتوب عليهم .