أول ما بُدِئَ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ( أي في الوضوح ) . ثم
حُبِّب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه -
يتعبد - الليالي ذوات العدد ( أي ليالي عديدة ) قبل أن ينزع إلى أهله ، و
كان يتزود لذلك ( أي بالزاد من طعام و شراب ) . ثم يرجع إلى خديجة
فيتزود لمثلها ، حتى أتاه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه المَلَك ( جبريل عليه السلام ) ، فقال : اقرأ
قال صلى الله عليه و سلم : فقلت
: ما أنا بقارئ
فأخذني فغطَّني ( أي
ضمَّني بشدة )، حتى بلغ مني الجَهْد ، ثم أرسلني . فقال : اقرأ
فقلت : ما
أنا بقارئ
فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال : اقرأ
فقلت : ما
أنا بقارئ
فأخذني فغطَّني
الثالثة ، تم أرسلني ، فقال لي في
الثالثة : (( اقرأ باسم
ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك
الأكرم .... )) .
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، حتى دخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زمِّلوني ، زمِّلوني ( أي غطوني ؛ إذ
كان صلى الله عليه و سلم حينئذ يرتجف بشدة ، و من هنا سُمِّي " المُزَّمِّل" ) ،
فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فأخبر خديجة رضي الله عنها
بما حدث و قال : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، و تحمل الكلَّ ( من لا ولد له و لا
والد ) ، و تقري الضيف ، و تكسب المعدوم ( الفقير ) ،
و تعين على نوائب الحق .
فانطلقت به
خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان قد
تنصَّر في الجاهلية ( أي اعتنق النصرانية ) ، و كان يكتب الكتاب
العبراني ( أي يعرف اللغة العبرية ) ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، و كان شيخا كبيرا قد عمِيَ .
فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ، ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما
رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس ( جبريل
عليه السلام ) الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني
فيها جَذَعا ( أي يا ليتني كنت شاباً ) ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك
قومك .
قال : أوَمُخْرِجِيَّ هم
؟؟
قال : نعم ، لم يأتِ رجل قط بمثل
ما جئت به إلا عودِيَ ، وإن يدركني يومك أنصرْك نصرا
مؤزَّرا
فلم يلبث ورقة أن توفي ،
وفي جامع
الترمذي أن النبي صلى الله عليه
وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة .
وفتر الوحي
( توقف فترة ) حتى حزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حزنا شديدا ، حتى كان يذهب إلى رءوس شواهق الجبال يريد أن يلقي
بنفسه منها ، كلما أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل عليه السلام
، فقال : " يا محمد ، إنك رسول الله حقا " فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه
فيرجع ، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة تبدَّى له جبريل فيقول له ذلك .
فبينما
هو يوما يمشي إذ سمع صوتا من السماء ، قال : " فرفعت بصري ، فإذا المَلَك الذي
جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه فرجعت إلى أهلي ، فقلت : دثِّروني ، دثِّروني . فأنزل الله: (( يا أيها المدثر * قم فأنذر )) ، فحَمِيَ الوحي وتتابع "
ولما دعا إلى
الله استجاب له عباد من كل قبيلة ، فكان حائز
السبق صدِّيق الأمَّة ، أبا بكر رضي الله عنه ،
فوازره في دين الله ، ودعا معه إلى الله ، فاستجاب لأبي بكر عثمان ( بن عفَّان ) ، و طلحة ( بن عُبَيْد الله ) ،
و سعد ( بن أبي وقَّاص ) رضي الله عنهم .
وبادر إلى استجابته أيضا
صدِّيقة النساء ، خديجة رضي الله عنها
. وبادر إلى الإسلام علي بن أبي طالب
رضي الله عنه ،
وكان ابن ثمان سنين وقيل أكثر ، إذ كان
في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذه من عمه أبي طالب يكفله عنه ؛ لكثرة عيال أبي طالب .
وبادر إلى الإسلام أيضاً
زيد بن حارثة
رضي الله عنه ، حِبُّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم . و كان غلاما لخديجة
، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا تزوجها . وقدم أبوه حارثة وعمه في فدائه ( أي يدفعون فداءه
عتقاً له من العبودية ) . فقالا للنبي صلى الله عليه
وسلم : يا ابن سيد قومه ، أنتم أهل حرم الله وجيرانه
، تفكون العاني ـ الأسير ـ وتطعمون الأسير . جئناك في ابننا عبدك ، فأحسن لنا في فدائه .
فقال صلى الله عليه وسلم : فهل غير ذلك ؟
قالوا : وما هو ؟
قال : أَدعوه فأخَيِّره ، فإن اختاركم فهو لكم ، وإن
اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني .
قالوا : قد زدتنا على النصف وأحسنت .
فدعاه ، فقال : هل تعرف هؤلاء
؟
قال : نعم ، أبي وعمي .
قال : فأنا من قد علِمْتَ ، و قد رأيتَ صُحْبَتي لك ، فاخترني أو
اخترهما
فقال : ما أنا بالذي أختار عليك أحدا ، أنت مكان أبي وعمي .
فقالا : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك ؟
قال : نعم ، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا .
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك خرج إلى الحِجْر ( حِجْر إسماعيل ) ، فقال : أشهد أن زيدا ابني ، أرثه ويرثني
فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما ، فانصرفا . و دُعِيَ " زيد بن محمد "
، حتى جاء حكم الله فنزلت (( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند
الله )) .
حال المسلمين
الأوائل
ودخل الناس في دين الله واحدا
بعد واحد و قريش
لا تنكر ذلك ، حتى بادأهم بعيب دينهم
وإنكاره و تحقير آلهتهم وأنها لا تضر ولا تنفع ، فحينئذ
شمَّروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب ؛ لأنه كان شريفا معظما ( ذو مكانة و هيبة
في قومه ) ، لكنه لم يؤمن ، وكان من حكمة أحكم الحاكمين
بقاؤه على دين قومه لِمَا في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها ( نتحدث عنها
فيما بعد إن شاء الله ) .
وأما أصحابه صلى الله عليه و
سلم ، فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته ، و من ليس له تصدوا له بالأذى والعذاب ، منهم عمَّار بن ياسر
، وأمه سُميَّة ، و أهل
بيته ، عُذِّبوا في الله . وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا مر بهم - وهم يعذبون - يقول : صبرا يا آل
ياسر ، فإن موعدكم
الجنة .
سمية أول شهيدة
ومر أبو جهل بسمية - أم عمار رضي الله عنهما - وهي تُعَذَّب و زوجها و ابنها ، فطعنها بحربة في
فرجها فقتلها .
وكان
الصدِّيق إذا مر بأحد من العبيد يُعَذَّب اشتراه وأعتقه ، منهم بلال
بن رباح ، فإنه عذب في الله أشد العذاب ، وكان بلال كلما اشتد
به العذاب يقول : أحد ، أحد . ومنهم أيضاً عامر بن فهيرة
( و قد اشتراه أبو بكر و عمل لديه راعياً لغنمه ، و كان له من الدور العظيم في
الهجرة النبوية الشريفة بعد ذلك ) ، وجارية لبني عدي كان عمر بن
الخطاب ـ و لم يكن قد أسلم بعد ـ يعذبها على الإسلام
.