وكان
المشركون يرسلون إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمره صلى الله عليه
و سلم ، فبعثت قريش "النضر بن الحارث" و "عقبة بن أبي معيط"
، إلى أحبار اليهود
بالمدينة ، فقالوا
لهما : سلاهم عن محمد و صِفَا لهم صفته ،
فإنهم أهل الكتاب و عندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء .
فخرجا حتى قدما المدينة
، فسألاهم عنه و وصفا لهم
أمره ، فقالت لهما أحبار اليهود : سلوه عن
ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فهو رجل منقول :
فأقبلا ، حتى قدما
مكة ،
فقالوا : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد .
قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها .
فجاءوا رسول الله فسألوه عما أخبرهم أحبار يهود ، فجاءه جبريل :
والقرآن مملوء من إخباره بالغيب
الماضي الذي لا يعلمه أحد من البشر إلا من
جهة الأنبياء ، لا من جهة الأولياء ولا من جهة غيرها .
وقد عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم لا يتعلم هذا من بشر ، ففيه آية وبرهان قاطع
على صدقه ونبوته .
إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اقرأ عليَّ .
فقرأ عليه : ((
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
... ))
فقال : أعد ، فأعاد
فقال
: والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن
أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو
ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر .
و قال الوليد بن المغيرة قال لقومه ، وقد حضر موسم الحج : ستقدم عليكم وفود العرب
من كل جانب وقد
سمعوا بأمر صاحبكم ، فأجمعوا فيه رأيا ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضا
.
فقالوا : فأنت فقل .
فقال : بل قولوا وأنا أسمع .
قالوا : نقول كاهن .
قال : ما هو بزمرة الكهان ولا سجعهم .
قالوا : نقول مجنون
قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه
ولا وسوسته ولا تخالجه .
قالوا : نقول شاعر .
قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه
ومبسوطه
قالوا : نقول ساحر
قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بعقدهم ولا
نفثهم
قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس
؟؟!
قال : ما نقول من شيء من هذا إلا عرف أنه باطل ، و لكن أقرب القول أن تقولوا ساحر يفرق بين المرء وأخيه وبين
المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته فتُفَرِّقوا عنه بذلك .
فجعلوا يجلسون للناس لا يمر بهم
أحد إلا حذروه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و قد
أدت محولات قريش منع الحجيج عن سماع رسول الله و تحذيرهم إياه أن انتشر ذكره في
بلاد العرب و تحاكى به الراجعون إلى بلادهم .
فأنزل الله
في الوليد بن المغيرة ست عشرة آية من سورة المدثر : من قوله : (( ذرني ومن خلقت وحيدا )) - إلى قوله - ((
سأصليه سقر )) . ونزل في النفر الذين
كانوا معه يصنفون القول في رسول الله وفيما جاء به من عند
الله (( الذين جعلوا القرآن
عضين )) أي أصنافا .
من المعجزات الحسية لرسول
الله
وكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات ، فمنها ما يأتيهم الله به لحكمة أرادها الله سبحانه .
فمن ذلك أنهم سألوه أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر . وأنزل
قوله تعالى (( اقتربت الساعة وانشق القمر )) الآيات إلى قوله (( وكل أمر
مستقر ))
فلما رأوا
ذلك قالوا : سحَرَكم ، انظروا إلى السفار (
القوم المسافرين ) فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق
.
فقال القادمون من كل
وجه : رأينا .
في دار
الأرقم
كان من الحكمة تلقاء اضطهادات
قريش و اعتداءاتهم أن يمنع رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين من إعلان
إسلامهم قولاً أو فعلاً ، و ألا يجتمع بهم إلا سراً ؛ لأنه إذا اجتمع بهم علناً فلا
شك أن المشركين يحولون بينه و بين ما يريد من تزكية المسلمين و تعليمهم الكتاب و
الحكمة ، و ربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين ، و قد وقعت بعض المصادمات بالفعل
كما حدث مع سعد بن أبي وقاص عندما كان يصلي و نفر من المسلمين في أحد شعاب
مكة ( الطرق بين الجبال ) .
و معلوم أن المصادمة لو تعددت و
طالت لأفضت إلى تدمير المسلمين و إبادتهم ؛ إذ كانوا قلة من أتباع الإسلام الناشئ ،
فكان من الحكمة الاختفاء ، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم و عبادتهم و دعوتهم و
اجتماعهم ، أما رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يجهر بالدعوة و العبادة بين
ظهرانيّ المشركين ، لا يصرفه عن ذلك شئ ، و لكن كان يجتمع مع المسلمين سراً ؛ نظراً
لصالحم و صالح الإسلام ، و كان ذلك في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، و قد
كانت على جبل الصفا ، و كانت بمعزل عن أعين الطغاة و مجالسهم ، فاتخذها مركزاً
لدعوته و لاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة .