و في السنة الخامسة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ؛ لما اشتد عليهم العذاب والأذى ، و
قال : إن فيها رجلا لا يظلم الناس عنده ( يقصد
النجاشي ملك الحبشة ) .
وكانت
الحبشة متجر قريش ، وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلا
وأربع نسوة ، وكان أول من
هاجر
إليها عثمان بن عفان
رضي الله عنه و
معه زوجته رقية بنت رسول
الله صلى الله عليه
وسلم .
وممن خرج :
الزبير بن العوام ، و عبد الرحمن بن عوف
، و
عبد الله بن مسعود ، و أبو سَلَمة وامرأته أم سَلَمة رضي الله
عنهم ، خرجوا متسللين سرا ، فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار فحملوهم إلى الحبشة . وخرجت قريش في آثارهم
حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدا . وكان
خروجهم في رجب ، فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان ، ثم رجعوا إلى مكة في شوال لما
بلغهم ( كَذِباً ) أن قريشا صافوا رسول الله صلى
الله عليه و سلم و كفوا عنه .
فلما اقترب من مكة مهاجرة الحبشة العائدين ، وبلغهم حقيقة أمرهم و كذِب
ما قد بلغهم ، توقفوا عن الدخول ، و رجع منهم من رجع إلى
الحبشة ، و لم يدخل أحد منهم مكة إلا مستخفياً أو في جوار ( في
حماية ) رجل من قريش .
ثم اشتد عليهم البلاء
والعذاب من قريش
وسطت بهم
عشائرهم ، فقد كان صَعُب على قريش ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية ، فخرجوا . و كانت هذه الهجرة
الثانية أشق من سابقتها ، فقد تيقظت لها قريش و قررت إحباطها ، بيْد أن المسلمين
كانوا أسرع و يسَّر الله لهم السفر .
وكان عدة من خرج في المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلا - إن كان فيهم
عمار بن ياسر - ومن النساء تسعة عشر امرأة .
فلما سمعوا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة بعد
ذلك رجع منهم
ثلاثة وثلاثون رجلا ، ومن النساء ثمان ، ومات منهم رجلان
بمكة ، و مُنِع
من الهجرة سبعة ( حال قومهم بينهم و بين الهجرة ) .
اجتمعت قريش في دار الندوة ( برلمان قريش ) ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي ثأرا ، فاجمعوا مالا واهدوه إلى النجاشي
، لعله
يدفع إليكم من عنده ، و لْننتدب لذلك رجلين من أهل رأيكم .
فبعثوا
عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة مع الهدي ( أي مع الهدية ، و لم يكونا قد أسلما
بعد ) ، فركبا البحر ، فلما دخلا على النجاشي سجدا وسلما
عليه ، وقالا : قومنا لك ناصحون ،
وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم اتبعوا رجلا كذابا خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه إلا السفهاء فضيقنا عليهم
وألجأناهم إلى شِعْب بأرضنا ، لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد ، فقتلهم الجوع والعطش ،
فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ( يعنون جعفر بن أبي طالب
) ليفسد عليك دينك وملكك .. فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكهم ، و
آية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يحيونك بالتحية التي تُحَيَّى بها ، رغبة عن دينك .
فدعاهم
النجاشي ،
فلما حضروا صاح جعفر بن أبي طالب بالباب : يستأذن عليك حزب
الله
فقال
النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ،
ففعل ، قال : نعم فليدخلوا بإذن الله وذمته .
فدخلوا و لم يسجدوا له ،
فقال : ما منعكم أن تسجدوا لي ؟
قالوا : إنما نسجد لله الذي خلقك ومُلكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبيا
صادقا ، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله و
هي " السلام " تحية أهل الجنة .
فعرف
النجاشي أن ذلك حق و أنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف يستأذن ؟
فقال جعفر : أنا .
قال : فتكلم .
قال : إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم (
يشيد بعدله و حكمته ) ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي ، فأمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ، فتسمع محاورتنا .
فقال عمرو بن
العاص لجعفر : تكلم .
فقال جعفر
للنجاشي : سَلْه ، أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيدا أبقنا ( أي هربنا ) من أربابنا فارددنا
إليهم .
فقال عمرو :
بل أحرار كرام .
فقال : هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا ؟
قال عمرو : ولا قطرة .
فقال : هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها ؟
فقال عمرو :
ولا قيراط .
فقال
النجاشي : فما تطلبون منه ؟
قال : كنا نحن وهم على أمر واحد على دين آبائنا ، فتركوا ذلك واتبعوا غيره .
فقال
النجاشي : ما هذا الذي كنتم عليه وما الذي
اتبعتموه ؟ قل واصدقني .
فقال جعفر
: أمَّا الذي كنا عليه و تركناه فهو دين الشيطان ، كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة . وأمَّا
الذي تحولنا إليه فدين الله .. الإسلام ، جاءنا به من الله رسول
وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له .
فقال : تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رِسْلِكَ ( أي تمهَّل ).
ثم أمر
بضرب الناقوس ، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب ، فقال لهم :
أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا ؟
قالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى ، وقال من آمن به فقد آمن بي ، ومن كفر به فقد كفر بي .
فقال النجاشي لجعفر رضي الله عنه : ماذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما
يأمركم به ؟ وما ينهاكم عنه ؟ .
فقال
: يقرأ علينا كتاب الله و يأمرنا بالمعروف و ينهانا عن
المنكر ، و يأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، و يأمرنا بأن
نعبد الله وحده لا شريك له .
فقال : اقرأ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والروم ، ففاضت عينا
النجاشي من الدمع ، وقال : زدنا من هذا الحديث الطيب ، فقرأ عليهم سورة الكهف .
فأراد عمرو أن يُغضِب
النجاشي ، فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه .
فقال : ما تقولون في عيسى وأمه ؟ ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فلما أتى على ذكر عيسى وأمه رفع النجاشي بعود من الأرض فقال : والله ما زاد المسيح على ما تقولون قدر هذا
العود .
فأقبل
النجاشي على جعفر ، ثم قال : اذهبوا فأنتم سُيوم بأرضي - والسيوم أي الآمنون
بلغة أهل الحبشة - من سبَّكم غَرِم .
ثم أمر حاشيته برد هدايا قريش ،
فخرجا من عنده مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءوا به ، و أقام المسلمون عنده بخير
دار مع خير جار .
وفي النجاشي نزل قول الله تعالى : (( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا
فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من
الحق ...
)) .
( مرفق مع هذه
الرسالة صورة أصلية لهذا الكتاب )
فلما كان
شهر ربيع سنة سبع من الهجرة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام ، وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ؛ جبراً لخاطرها ، إذ كانت
مهاجرة إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن
جحش فتنصر هناك ومات نصرانيا و بقيت هي على إسلامها . وكتب
إليه أيضا أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ؛ إذ لم يكونوا قد رجعوا جميعاً عند
سماعهم بهجرة رسول الله إلى المدينة ، و إنما بقيَ البعض .
فلما قرأ الكتاب أسلم ، وقال
: لو قدرت أن آتيه لأتيته ، و
زوجه أم حبيبة وأصدقها عنه أربعمائة دينار ( أي دفعها مهراً لها نيابةً عنه ) ، وحمل بقية أصحابه في سفينتين فقدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد فتحها ( في السنة السابعة للهجرة
) .
و لما مات النجاشي
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه كما يصلي على
الجنائز ( صلاة الغائب ) .