ولمَّا اشتد البلاء من
قريش
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه خرج إلى
الطائف في شوال سنة عشر من النبوة ، رجاء أن يؤوه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم حتى
يبلِّغ رسالة ربه ، ودعاهم إلى الله عز وجل فلم يرَ من يؤوي ولم يرَ ناصرا ، وآذَوه أشد الأذى ، ونالوا منه ما لم ينل
قومه . وكان معه زيد بن حارثة مولاه ( غلامه ) . فأقام بينهم عشرة أيام ، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا كلَّمه ، فقالوا : اخرج من بلدنا . وأغْرَوْا به سفهاءهم ، فوقفوا
له وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلماتٍ من السَّفَه هي أشد وقعا من
الحجارة ، حتى دَمِيَت قدماه ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه ، حتى أصابه صلى الله عليه و
سلم شِجاج ( جروح ) في رأسه ، فانصرف إلى مكة محزونا .
وفي مرجعه دعا بالدعاء المشهور : " اللهم إني أشكو إليك
ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد
يتجهمني ( يلقاني بوجه عابس ) ، أو إلى عدو ملَّكْته أمري ؟ إن لم يكن
بك غضب عليَّ فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي .
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة
أن يحل عليَّ غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العُتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا
بك "
فأرسل ربه
تبارك وتعالى إليه مَلَك الجبال يستأمره أن يطبق
الأخشبين على أهل مكة
- وهما جبلاها اللذان
هي بينهما - فقال : بل أستأني ( أتمهل )
بهم ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك
به شيئا .
فلما نزل
بنخلة في
مرجعه قام يصلي من الليل ما شاء الله ، فصرف الله إليه
نفرا من الجن فاستمعوا قراءته
ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم و لم يعلم بسماعهم حتى نزل عليه قوله تعالى : (( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن )) - إلى قوله - (( أولئك في ضلال
مبين )) .
وأقام بنخلة أياما ، فقال زيد بن حارثة رضي الله عنه : كيف تدخل عليهم وقد
أخرجوك ؟ ( يعني قريشاً )
فقال :
يا زيد إن الله
جاعل لما ترى فرجا ومخرجا ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه .
ثم انتهى إلى مكة ،
فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي يساله : أدخل في جوارك ؟ ( أي أدخل مكة في حمايتك
)
فقال
: نعم . و دعا المطعم بَنِيه وقومه فقال : البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت ، فإني قد أَجَرْتُ محمدا ، فلا يَهْجُه ( يُعيبه
) أحد .
فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن ( ركن الكعبة ) فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته
، والمطعم بن عدي
وولده محدقون ( محيطون ) به في
السلاح يحرسونه حتى دخل بيته .
يا أقصانا لن ننساك
يا أقصانا نحن فداك
ثم أُسْرِيَ برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس راكبا على البراق في صحبة جبريل عليه السلام ، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة في باب المسجد .
ثم عُرِج به إلى السماء الدنيا : فرأى
فيها آدم ، ورأى أرواح السعداء عن يمينه والأشقياء عن شماله .
ثم إلى الثانية : فرأى فيها عيسى ويحيى .
ثم إلى
الثالثة : فرأى فيها يوسف .
ثم إلى الرابعة : فرأى فيها إدريس .
ثم إلى
الخامسة : فرأى فيها هارون .
ثم إلى
السادسة : فرأى فيها موسى ، فلما جاوزه بكى
موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ ، قال : أبكي لأن
غلاما بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها
من أمتي .
ثم عُرِج به إلى السماء السابعة : فلقي فيها إبراهيم .
ثم إلى
سدرة المنتهى ، ثم رُفِعَ إلى البيت المعمور ، فرأى هناك جبريل في
صورته الحقيقية ، له ستمائة جناح ، وهو قوله
تعالى : (( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى )) . وكلَّمه ربه
وأعطاه ما أعطاه ، وأعطاه الصلاة ، فكانت قرة عين رسول
الله صلى الله عليه وسلم .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه وأخبرهم اشتد تكذيبهم له
وسألوه أن يصف لهم بيت
المقدس ، فجلاه الله له حتى
عاينه و جعل يخبرهم به و لا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا ،
وأخبرهم عن عيرهم ( قوافلهم ) التي رآها في مسراه ومرجعه وعن وقت قدومها ، وعن البعير الذي يتقدمها ، فكان كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا ثبورا (
هلاكاً ) ، و أبى الظالمون إلا كفورا .
و قد كان لأبي بكر الصديق موقف
يدل على عمق إيمانه ، فلمَّا أتاه المشركون يقصُّون عليه ما يقوله رسول الله طمعاً
منهم في أن يكذبه أبو بكر في ذلك ، إلا أنه قال لهم : إن كان
قال فقد صدق ، و سُمِّيَ يومئذ الصدِّيق
.
قد ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم كان
يوافي موسم الحج كل عام يتبع الحجاج في منازلهم وفي عكاظ وغيرها يدعوهم إلى الله ، فلم يجبه أحد منهم ولم يؤوه ، فكان مما صنع
الله لرسوله أن الأوس
والخزرج ( أهل
المدينة المنورة ، و كانت تسمَّى "يثرب" ، و كانت تسميتهم بعد الهجرة "الأنصار"
) كانوا
يسمعون من يهود المدينة
: أن نبيا
يُبْعَث في هذا الزمان فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد و
إرَم .
وكان
الأوس
والخزرج
أخوان لأم وأب ، أصلهم من سبأ من اليمن ، وأمهم "قيلة بنت كاهل" ، ويقال لهم لذلك "أبناء قيلة" ، فوقعت بينهم العداوة بسبب قتيل فلبثت بينهم الحرب مائة وعشرين سنة إلى
أن أطفأها الله بالإسلام وألَّف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
وذلك قوله تعالى : (( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا ))
.
وكانت
الأنصار
تحج ، كغيرها من العرب ، دون اليهود . فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس
إلى الله وتأملوا أحواله قال بعضهم
لبعض : تعلمون
والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود ، فلا يسبقنكم إليه .
وقدَّر الله بعد ذلك أن
اليهود
يكفرون به ، فذلك قوله
تعالى : (( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من
قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على
الكافرين )) والآية التي بعدها .
فلقي رسول
الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة في موسم الحج سنة إحدى عشر من
النبوة ستة نفر من الأنصار ، كلهم من الخزرج ، منهم أسعد بن زرارة
وجابر
بن عبد الله بن رئاب السَّلْمي ، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا ، و قالوا
له : إن بين قومنا من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسندعوهم إلى أمرك ، فإن
يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ( أي فأنت ستكون عزيزاً
باجتماعهم حولك ).
ثم رجعوا إلى
المدينة
، فدعوا إلى الإسلام ، فنشأ الإسلام فيها حتى لم تبق دار إلا و فيها ذكر الإسلام
و ذكر رسول الله .
فلما كان
العام التالي في موسم الحج السنة الثانية عشر من النبوة ، جاء منهم اثنا عشر رجلا : الستة الأول ماعدا جابرا ، ومعهم عبادة بن الصامت ، وأبو الهيثم بن
التيهان و غيرهما ، منهم اثنان
من الأوس : أبو الهيثم وعويم بن ساعدة ، و الباقي من الخزرج .
فلما انصرفوا بعث معهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ( أول سفير في الإسلام ؛ سفير المدينة
) ، وأمره
أن يُقْرِئهم القرآن ويعلمهم الإسلام . فنزل على أبي أمامة ( أسعد بن زرارة ) ، و
أخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجدٍ و حماس .
في موسم الحج في السنة الثالثة
عشر من النبوة حضر لأداء الحج بضع ( من ثلاثة إلى تسعة ) و سبعون نفساً من المسلمين
من أهل يثرب ، جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين . و قد تساءل هؤلاء المسلمون فيما
بينهم و هم في طريقهم إلى مكة : حتى متى نترك
رسول الله يطوف و يُطْرَد في جبال مكة و يخاف ؟؟
فلما وصلوا
مكة جرت بينهم و بين النبي اتصالات سرية ، فواعدوه العقبة ( حيث
الجمرة الكبرى بمنى ) في أواسط أيام التشريق ( أيام رمي الجمار ) حتى
يبايعوه ، و أن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل .
فلما كان الليل تسللوا من رحالهم مختفين ، ومعهم عبد الله
بن عمرو بن حرام - أبو جابر - وهو
أحد أشرافهم و سيد من سادات يثرب ، و هو مشرك ، وكانوا يكاتمونه
الأمر . فلما كانت الليلة التي واعدوا فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم قالوا : يا
أبا جابر ، إنك شريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا
قال : وما
ذلك ؟ فأخبروه الخبر ، فأسلم وشهد بيعة العقبة وكان أحد النقباء ( كما سيأتي ) .
فلما مضى ثلث الليل خرجوا
للميعاد ، و هم ثلاثة و سبعون رجلاً و امرأتان ، فاجتمعوا في الشِّعْب ينتظرون رسول
الله ، حتى جاءهم ومعه عمه العباس بن عبد المُطَّلِب ، وهو يومئذ على دين
قومه ، ولكنه أحب أن يحضر أمر ابن
أخيه ويتوثق له .
و بعد أن تكامل المجلس بدأت
المحادثات لإبرام التحالف الديني و العسكري ، و كان أول من تكلم هو العباس بن عبد
المطلب ، تكلم ليشرح لهم خطورة المسئولية التي ستلقى على عواتقهم ، فقال
: يا معشر الخزرج
- وكانت العرب تسمي جميع أهل يثرب الخزرج - ، إن محمدا مِنَّا حيث
علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، وهو في منعة في بلده إلا أنه أبى
إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه
فأنتم وما تحمَّلتم ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه وخاذلوه بعد خروجه
إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة .
قالوا : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك
ولربك ما شئت ، علامَ نبايعك ؟
فتكلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال :
-
على السمع و الطاعة
في النشاط و الكسل
-
و على النفقة في
العسر و اليسر
-
و على الأمر بالمعروف
و النهي عن المنكر
-
و على أن تقوموا في
الله لا تأخذكم في الله لومة لائم
-
و على أن تمنعوني - إذا قدمت عليكم - مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، ولكم الجنة .
فكان أول من بايعه
البراء
بن معرور ، فقال
: والذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنع منه أزرنا (
أنفسنا ) ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب والحلقة ورثناها صاغرا عن
كابر .
فاعترضه أبو الهيثم بن
التيهان ، وقال :
إن بيننا وبين الناس حبالا ونحن قاطعوها ( أي
لنا معهم صلات و علاقات يقطعها تحالفنا معك ) ، فهل عسيت - إن أظهرك
الله - أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم قال : لا والله بل
الدم الدم والهدم الهدم ( أي دمكم
دمي ، و هدمكم هدمي ) ، أنتم مني وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسالم
من سالمتم .
فلما قدموا يبايعونه أخذ بيده أصغرهم أسعد بن
زرارة ، و قد كان هو الداعية الكبير للإسلام في يثرب مع مصعب بن
عمير ، فأراد تنبيههم إلى خطورة ما هم مقبلون عليه و معرفة مدى استعدادهم
للتضحية و الفداء ، فقال : رويدا يا أهل يثرب
، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه
اليوم مفارقة للعرب كافة وقتل خياركم وأن تَعَضُّكم
السيوف ( كناية عن كثرة القتل و الحرب ) ، فإما أنتم تصبرون على
ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم
خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله ( أي لكم العذر عند الله في ضعفكم و
عدم قدرتكم على حمايته )
فقالوا : أَمِطْ عنا يدك ( أبعد عنا يدك ) ، فوالله ما نذر هذه
البيعة ولا نستقيلها ( لا نتركها ) .
فقاموا إليه رجلا رجلا يأخذ
عليهم البيعة ، و يعطيهم بذلك الجنة . أمَّا بيعة المرأتين اللتين شهدتا
الوقعة فكانت قولاً ، و ما صافح رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة أجنبية قط
.
ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : أخْرِجوا إليَّ
منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي . فتم انتخابهم
في الحال ، و كانوا تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس .
فلما بايعوه و كان القوم على
وشك الانفضاض اكتشفها شيطان من القوم ، فصرخ
الشيطان بصوت نافذ : يا أهل الأخاشب ( المنازل
) ، هل لكم في محمد والصبأة معه ؟ قد اجتمعوا على حربكم .
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : هذا إزْب ( اللئيم أو الداهية ) العقبة ، أَمَا والله يا عدو الله لأفرغن
لك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : اِرْفَضُّوا ( انْفَضُّوا ) إلى رحالكم
.
فقال العباس بن عبادة بن نضلة ( من المبايعين ) : والذي بعثك بالحق إن شئت
لنميلن على أهل
مكة
غدا بأسيافنا .
فقال : لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ، فرجعوا
.
فلما أصبحوا غدت
عليهم قريش فقالوا : إنه
بلغنا أنكم جئتم صاحبنا البارحة تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على
حربنا ، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم .
فانبعث رجال من مشركي
الخزرج ممن لم يعلموا بأمر البيعة يحلفون لهم بالله ما كان من
هذا شيء ، أمَّا المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض ثم لاذوا بالصمت فلم يتحدث أحد منهم
بنفي أو إثبات . و مال زعماء قريش إلى تصديق المشركين ، فرجعوا خائبين .
عاد زعماء مكة و هم على شبه
يقين من كذب هذا الخبر ، لكنهم لم يزالوا يبحثون حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح ، و
أن البيعة قد تمت فعلاً ، و كان ذلك بعد نفرة الحجيج إلى أوطانهم و بعد أن
انفصلت الأنصار عن مكة ، فخرجوا في طلبهم فأدركوا سعد بن
عبادة ، والمنذر بن
عمرو ، فأعجزهم
المنذر ومضى ( عجزوا عنه ) ، وأما سعد فقالوا له : أنت على دين محمد ؟ قال
: نعم ، فربطوا يديه إلى عنقه وجعلوا يسحبونه
بشعره ويضربوه حتى أدخلوه مكة ، فجاء
المطعم
بن عدي والحارث بن حرب بن
أمية فخلصاه من أيديهم ؛ إذ كان سعد
يحمي لهما قوافلهما المارة بالمدينة .